بقريح

عندما دخل الانترنت إلى مملكتنا العزيزة في منتصف التسعينات الميلادية، تزامن دخوله في خضم الكثير من الصراعات السياسية والثقافية، وأصبحت هذه المنصة جاذبة جداً لما تملكه من سمات مثل: سماحها للجميع بالظهور تحت أسماء مستعارة، والحديث بحرية مطلقة يسمحون لأنفسهم فيها بتجاوز جميع الحواجز دون وجود رقيب مقارنة بالتلفزيون أو الراديو أو الصحف التي يصعب الوصول إلى فضائها وإيصال وجهة النظر كما نرغب دون قيود معينة.

هذه المساحة الكبيرة التي فُتِحت لنا عبر الانترنت كانت سبباً رئيساً في أن نتسمر أمام متصفح الانترنت لساعات طويلة جداً، وبات من الطبيعي أن يمكث المستخدم ما بين 4-6 ساعاً يومياً في مقهى الإنترنت يمارس دور المستكشف، والمحاضر والفاهم والغبي والعاقل او الداشر!

فكانت مثل الأرض الخصبة التي يمكنك أن تشكلها مثلما تريد وحسب الظروف، فلا توجد حواجز تقيدك، فيمكنك الحوار باسم رزين في منتدى الساحة العربية فتظهر كمفكر عظيم، بينما يمكنك أن تكون شاعراً يضع في توقيعه أجمل القصائد في منتدى الصريحة، او يمكنك أن تكون هاكر ولديك موقع في جيوسيتيس تمارس فيه تجاربك على البشر.

عن نفسي.. كنت أمارس هذه الأشياء كأي شخص حديث عهد بالأنترنت، ولكن الشيء الوحيد الذي كان يجذبني بشدة هي الحوارات الفكرية، فقد كانت تجعلني رهينة الصراعات، وأحرص على متابعة كتّاب يكتبون في كل شيء وعن أي شيء، وإن غابوا أو انقطعوا عن الكتابة أصابتني الكآبة وسيطر علي الحزن الشديد وكأن الدنيا توقفت وأنه لا توجد حياة بعدهم! ولهذا فقد كنت كثير القفز بين المواقع وأكتب في كل شيء وأتحدث عن أي شيء كحال الجميع.

بعد مرور عدة سنوات، صقلتني الحياة بظروفها وتجاربها المتعددة التي قفزت بعمري سريعاً وتغير كل شيء حولي إلا هذه الصراعات التي لم تتوقف بل تتجدد في كل حدث أو مناسبة، وفي لحظة إدراك نادرة تصيب المرء خلال ركضه في مناكب الأرض، اكتشفت وبشكل واضح كيف أني أصبحت لا شعورياً حبيساً لهذه الصراعات، ولأمور لا أملك فيها أي حل أو ربط، ومهما كان الإنسان متابعاً وكثير القراءة والحوار والنقاش في شتى المواضيع ففي الواقع لن تكون مغيراً ومؤثراً إلا بما لديك من حلول، وتحاول ساعياً أن تجعلها مفيدة لك ولمن حولك من العائلة والأصدقاء المقربين … كان هذا الإدراك مثل وقع عصا غليظة على رأسي جعلتني استفيق من غيبوبة الخوض في مواضيع لا تفيد ولا تنفع بل تستنزف جهدك وتفكيرك وعاطفتك.

هذا التحول بالنسبة لي جعلني اضع شعار (بقريح) العظيم والذي يقصد فيه بالعامية بعدم الاهتمام أو اللامبالاة للشيء، هذا الشعار والذي يجعل ذهنك يعيش في نعيم كبير، تترك كل ما يدور من حولك من نقاش وصراعات لا حول ولا قوة لك فيها وتركز على ما تحب وما يفيدك ويمتعك.

وهذا الشعار سيجعلك تصل لمرحة (التسليك) لمن يلعب دور المثقف تارة، أو دور الناصح، او المسوق، أو دور التاجر  والذي ينصح الناس بترك وظائفها وتتجه للتجارة وهو مولود وبفمه طشت من ذهب – مهب بس ملعقة-  ولم يمارس التجارة الحقيقية قط، أو بشخص لم يتجاوز عمرة ٢٥ سنة ويضع في وصف حسابه مدرب حياة بينما معارك حياته كلها لم تتجاوز معركة الاصطفاف في مقهى مزدحم أو باريستا (آسف قهوجي) لم يضبط وزنية قهوته اليومية، هؤلاء وغيرهم يمارسون دورهم إما لمكاسب شخصية او مالية فلا تجعل من نفسك ضحية أو سلعه لهم، اتركهم في غيهم يعمهون، فعالم الانترنت خصب بهؤلاء ولا يمكنك إيقافهم؛ لان الجميع منتفع والانترنت مليء بالحمقى، فإن لم يكونوا يكسبون في الواقع فهم على الأقل يستمتعون بأنهم يخدعونك!

التسليك ليس عيب، فانت تصل لمرحلة أن تفلتر كل ما يصل إليك وتجعلك تختار ما ترغب به وترمي ما يؤذيك ولا يعجبك، هذه المرحلة العظيمة تزداد عظمة وجمالاً مع الأيام تدريجياً .. خصوصا عندما تبدأ تصل لمرحلة النضج في حياتك، وعندما تتعاظم مسؤولياتك، فتركيزك أصبح يتحول لعملك ولعائلتك وأصدقائك وكيف تصل لمرحلة الراحة الذهنية والعاطفية، ووالله أن معركة البحث عن خبز الصامولي الطازج والذي تطعمه لأطفالك في المدرسة لهو أهم من متابعة شخص يكتب ثريد في تويتر عن مشهورة نشرت طلاقها في الشبكات الاجتماعية.

هذه المرحلة المهمة في حياتك والتي بلا شك ستمر عليك في فترة نهاية الثلاثينيات وبداية الاربعينات ستمتد ليس في أشيائك الشخصية ،بل ستصل إلى العملية، فبعد أن تكسب الخبرة في كيفية التعامل مع البشر تسعى إلى راحة البال بان تخفف معاركك وأن تتقبل الهزيمة في نقاش وحوارات انتصارك فيها هو أن تبتسم وتقول: سم طال عمرك أو أبشر.

ردد معي عزيز القارئ، بقريح ثلاث مرات حتى لكاتب هذه المقالة والمقالة نفسها ولمن صححها وراجعها! >> هذه إضافة من المصحح وليست مني!